مجلس الشعب.. الطغيان التشريعي يبتلع الدور الرقابي

عن موقع اخوان اون لاين
تحقيق- علاء عياد
بعد سخونة اتسم بها دور الانعقاد الثاني لمجلس الشعب تمَّ فضّ الدورة البرلمانية التي احتشدت بالكثير من القضايا، بدايةً من التعديلات
الدستورية، ونهايةً بقانون الكادر الخاص للمعلمين، وإن كانت التعديلات الدستورية وقانون مباشرة الحقوق السياسية أبرز المحطات في حياة هذه الدورة التي رأينا التطبيق الفعلي لها في انتخابات الشورى الأخيرة.

وبالرغم من أن المستهدف من وراء طرح التعديلات الدستورية وهذا الكمّ الكبير من القوانين الذي وصل إلى 50 مشروعَ قانون و23 مشروعًا مهنيًّا وحسابًا ختاميًّا، وهو العدد الذي لم تشهده أي دورة برلمانية محاولة شغل نواب المعارضة وخاصة الإخوان؛ لتفويت الفرصة في محاسبة الحكومة على كثير من ملفات الفساد والإهمال.. إلا أن الكثير من الملفات فرضت نفسها وبقوة، سواءٌ قضية العبَّارة، أو أكياس الدم، وفضيحة البورصة، لتصل الأدوات الرقابية إلى عدد لم تعهده الحياة النيابية، فتمَّت مناقشة 1876 طلبَ إحاطة و2463 بيانًا عاجلاً و 28 استجوابًا و122 سؤالاً و339 اقتراحًا برغبة و4 طلبات مناقشة عامة.

هذه الدورة البرلمانية التي شهدت 131 جلسةً ليكون أكبر عدد من الجلسات يشهده المجلس منذ دستور 1971، وأعلى عدد من ساعات عمل المجلس على طول الحياة البرلمانية والتي وصلت إلى 605 ساعات.

ومع نهاية هذه الدورة كان لا بد أن نعرض كشف الحساب هذا على عدد من المتخصصين، ففي البداية يقول د. أحمد ثابت- أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة- إن هذه الدورة شهدت العديد من الظواهر والأحداث العاصفة، فقد أكد الحزب الوطني الحاكم مبدأ العصف بكل الحريات، واحتكار السلطة، وانتهاك حقوق الإنسان، وتكريس الدولة البوليسية، وتم ذلك بالموافقة على التعديلات الدستورية التي جاءت من رئيس الجمهورية دون مناقشة أو تعديل أو حتى إضافة نقطة أو فاصلة فقط!!


أحمد عز وكمال الشاذلي
مضيفًا أن موقف رئيس مجلس الشعب كان يائسًا ومزريًا ولا يليق برئيس لمجلس الشعب أن يخضع لتسلُّط زعيم الأغلبية أحمد عز، وهو ما تمثَّل في تأخير بدء الجلسات حتى يحضر عزّ كي لا تفوز المعارضة والأقلية بالأغلبية في التصويت في ظل عدم حضور الحزب الوطني، وهو ما اتضح في مناقشة قانون الاعتماد والجودة وتشريعات كثيرة!!

وأضاف ثابت أن رئيس المجلس مارَسَ تقاليدَ برلمانيةً غريبةً وشاذَّةً عندما أعاد التصويت على مادة في قانون الاعتماد والجودة، كانت تنصُّ على تبعية هيئة الاعتماد والجودة لمجلس الشعب؛ ليتم تغييرها رغم سبْق الموافقة عليها بأن تكون تابعة لمجلس الوزراء!!

وأشار إلى أن المجلس شهد في هذه الدورة تستُّرًا مروِّعًا على الفساد، كما ظهر رئيس الوزراء ووزراؤه في صورة المتواطئين في حماية الفساد والمفسدين، مثلما حدث في حادث غرق العبَّارة، وكذلك عدم مساءلة وزير الإسكان السابق على فساده وإهداره لأموال الشعب.

مضيفًا أن إجهاض رئيس المجلس أيضًا سؤالاً لأحد الأعضاء عن الذمَّة المالية لرئيس الجمهورية، ورفضه مناقشة أحداث الاعتداء على عضو مجلس الشعب عن الإخوان، والقبض على عضوَين أيضًا من الإخوان، وكذلك صمته عن إهانة المجلس ككل.. من ضباط أمن الدولة والأمن المركزي!! كما أنه لم يصرَّ على استدعاء وزير الداخلية لسؤاله عن حوادث الاعتداء.. كل هذا يؤكد ضعف رئيس المجلس الذي نصَّت لائحة المجلس أنه المُدافع الأول عن حقوق النواب.

المؤشرات
ويضيف الكاتب الكبير محمد الطويل أن الأرقام الكمية التي مثَّلت الأداء البرلماني خلال هذه الدورة لها معنى قوى، موضحًا أن المجلس كان يعمل كلَّ الأسبوع، وأن هذه المؤشرات تبيِّن الكمَّ الهائلَ من الأدوات الرقابية التي طرحت الكثير من القضايا العامة والملحَّة على الساحة، بالرغم من الزخم الهائل من القوانين التي نوقشت خلال هذه الدورة.

مؤكدًا أن المعارضة كانت خلال هذه الدورة قويةً جدًّا، وهذا فرَض على الأغلبية محاولةَ الصمود، مشيرًا إلى أن الحكومة قامت بترحيل الكثير من الموضوعات وتعليق القضايا السياسية التي كانت ستُسبَّب إحراجًا أكبر، مثل مشكلة أكياس الدم لشركة "هيدلينا"، والتعديلات الخاصة بلائحة المجلس، وهذا سيجعل بدايةَ الدورة القادمة تتسم بالسخونة.


د. محمد سعد الكتاتني
وأوضح الطويل أنه مهما بدا على السطح من خلافات في الرأي خلال هذه الدورة البرلمانية، إلا أننا وجدنا توافقًا كبيرًا بين الأغلبية والمعارضة في ختام الدورة في عدد من القضايا، وأضاف أن هناك ملحوظةً على الإخوان من خلال ممارساتهم النيابية خلال العشرين عامًا الماضية، فالنواب الحاليُّون بعضهم انفعاليٌّ أكثر من اللازم، ومثل هذا الانفعال يضيِّع الحق ويخلق جوًّا من الفوضى في المناقشة داخل المجلس، وأثنى الطويل على الدكتور محمد سعد الكتاتني لتعقُّله وهدوئه في معالجة الأمور.

اخطف واجري!!
في المقابل يرى د. عمرو هاشم ربيع- رئيس وحدة البحوث البرلمانية في مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية بـ(الأهرام)- أنه لم يلمس أيَّ جديد خلال هذه الدورة البرلمانية، مؤكدًا أن المخرَجات التي آلَت لها هذه الدورة البرلمانية أكثر سوءًا، مضيفًا أنه ليس هناك أملٌ في التغيير في وجود هذا النظام، مشيرًا إلى أن السمات أو المؤشرات التي ترتبط الآن بالحياة النيابية هي هيمنة السلطة التنفيذية على السلطة التشريعية، بل إن البرلمان لم تعُد له سلطة في الحياة السياسية.

وأشار إلى أن البرلمان أصبح كرسيَّ تشريعات سلطوية أكثر مما مضى وكأنه يربِّي أسدًا ضعيفًا ليصبح كلبًا أليفًا، فالقوانين تتم بين عشية وضحاها، كما أن العملية التشريعية أصبحت بإملاءات الهيئة البرلمانية للحزب، والعجيب أنه بعد ذلك نجد الحزب الوطني ما زال مصرًّا على تسمية ما يحدث بأنها تجربةٌ حزبيةٌ، واصفًا البرلمانَ بأنه أصبح تمريريًّا أكثر منه تشريعيًّا.

وأضاف هاشم أن وقت التغيير والإصلاح السياسي لم يحِن بعْد، وأرجع ذلك إلى أن الدولة تُدار الآن بعقلية الموظفين، ولم يعُد هناك مكانٌ للفقراء، وهذا ظهَرَ في كمية الأدوات الرقابية المقدّمة لمحاربة الفساد والإهمال في هذا الشأن.

إزعاج الحكومة
وقال حسين محمد إبراهيم- نائب رئيس الكتلة البرلمانية للإخوان المسلمين- إن هذه الدورة من أخطر دورات الانعقاد منذ 28 سنة، وقد أعادت إلى الأذهان الدورة البرلمانية التي أقرَّ فيها مجلس الشعب معاهدة السلام مع الكيان الصهيوني، وأكد أن هذه الدورة كانت أشبهَ بالانقلاب الدستوري من نوَّاب الأغلبية لإجهاض الإصلاح السياسي واعتماد الفوضى القانونية بإقرار التعديلات الدستورية، كما شهدت هذه الدورة نزعَ بعضِ اختصاصات محكمة النقض وإنشاء محكمة القضاء العسكري، موضحًا أن كثرة الأدوات الرقابية والاستجوابات تدلُّ على مدى الفساد المترعرع في هذا النظام، لافتًا النظر إلى أن نواب الوطني استخدموا الأدوات الرقابية لتعطيل المعارضة عن كشف الفساد وتعرية هذا النظام.


د. أكرم الشاعر
وأشار حسين إبراهيم إلى أن رئاسة المجلس تخلَّت عن حيادها، وكانت تدعم الأغلبية على حساب المعارضة، وكان دورها ضعيفًا في كثيرٍ من المواقف التي كانت تتطلَّب تدخلاً حاسمًا منها لحماية النواب.

مضيفًا أنه منذ اليوم الأول لهذه الدورة وهناك تغوُّلٌ من السلطة التنفيذية على السلطة التشريعية، كما كان واضحًا استمرار سياسة الإقصاء التي مارَسَها الحزب الوطني ضد المعارضة مستدلاًّ بالحشد الذي قام به الحزب في لجنة الصحة لعدم فوز الدكتور أكرم الشاعر بمنصب الوكيل.

وفيما يتعلق باهتمام نواب الإخوان بعدد من القضايا مثل الاعتقالات في الوقت الذي لم ينفعلوا بنفس القوة مع ارتفاع الأسعار.. قال نائب رئيس الكتلة: إن اهتمام الإخوان بكل القضايا كان بنفس القدر، إلا أنه ألمح إلى أن الأمانة العامة للمجلس المكوّنة من رئيس المجلس ووكيليه والأمين العام وكلهم أعضاء في الحزب الحاكم هي التي تضع جدولَ أعمال المجلس، وبالتالي فهي حريصةٌ على عدم إزعاج الحكومة.

فيروس سحب الثقة
ويرى النائب كمال أحمد أن هذه الدورة شهدت حجمًا هائلاً من التشريعات، سواءٌ التعديلات الدستورية أو القوانين الناجمة عنها على حساب الرقابة، مضيفًا أن هذا الكم من التعديلات الدستورية جعل المجلس يلاحق ما تُحيله إليه السلطة التنفيذية، وهو ما أحدث ارتباكًا نسبيًّا في خريطة المجلس، وانعكس على الدراسة الموضوعية لهذه التشريعات؛ مما أدَّى في النهاية إلى عودة ظاهرة سلق القوانين.

مشيرًا إلى أن هذه التشريعات معظمها اتَّسم بالبُعد السياسي الذي جعل هذه الدورة ذات طابع حادٍّ وساخن بين القوى السياسية الممثَّلة داخل المجلس، وهذا أدَّى إلى انفلاتٍ غير معهود بين الأعضاء والمنصة وبين الأقلية والأغلبية، كما أصاب هذه الدورة أيضًا فيروس سحب الثقة وإسقاط العضوية لبعض الأعضاء بشكلٍ لم يعهده المجلس من قبل.

ولفت النظر إلى أن هذه الدورة اتَّسمت بظاهرةٍ لم تحدث من قبل بغياب الوزراء المختصين بالمناقشات، وذكر أن أبرز صورة لذلك استجواب كارثة العبَّارة الذي تغيَّب عنه رئيس الوزراء، مؤكدًا أن دلالة هذا هو استناد الحكومة على الأغلبية الممثلة لها داخل البرلمان.

إمبراطورية الفساد
من ناحيته اعتبر النائب الوفدي محمد عبد العليم أن هذه الدورة شهدت أسوأ تعديلات دستورية في مصر، وأكبر جريمة لتكبيل حرية المواطن المصري ووضع العقبات أمامه، وهي مؤامرةٌ على حرمان المواطن من حقٍّ كرَّمه به الله سبحانه وتعالى، واصفًا التعديلات الدستورية المشبوهة وقانون مباشرة الحقوق السياسية وإلغاء الإشراف القضائي على الانتخابات بالسمّ الذي تجرَّعه الشعب المصري، مؤكدًا أن أكبر شاهد على ذلك انتخابات الشورى الأخيرة.

وأضاف أن هذه الدورة شهدت إسدالَ الستار على جريمة قتْلِ أكثر من 65 ألفَ شهيدٍ في حربَي يونيو حزيران 1956، والنكسة 1967 على أيدي الصهاينة، ولم يناقَش الاستجواب المقدّم لهذا الموضوع، كما شهدت غضَّ الطرف عن أكبر جريمة، وهي استجواب عبَّارة الموت التي راح ضحيتَها 1264 مصريًّا، ولم تتم محاسبة أيُّ مسئول لأن صاحبها من الحزب الحاكم!!


ياسر حمود
وأوضح أيضًا أنها شهدت الانتقام من المعارضين، سواءٌ بإسقاط العضوية عن محمد عصمت السادات والسكوت عن سحْل أحد المعارضين وهو النائب ياسر حمود، والصمت عن القبض على اثنَين من نواب الشعب، هما النائبان رجب أبو زيد وصبري عامر، بتدشين وتقنين إمبراطورية أكبر فاسد ومحتكر وأحد نجوم الحزب الحاكم الذي سيطر بماله الفاسد على توجيه القرار والتسويق داخل البرلمان.

عبَّارة الموت
بينما ترى النائبة جورجيت صبحي قليني أن من إيجابيات هذه الدورة نسبة الحضور العالية والمشاركة الجيِّدة، باستثناء الشهر الأخير بسبب انتخابات الشورى، إلا أنها تأخذ على نواب الكتلة البرلمانية للإخوان المسلمين الانسحابَ من الجلسات، وتكرار ذلك أكثر من مرة، معتبرةً أنها ظاهرةٌ غير صحيَّة، وترى أن الأفضل من الانسحاب عرض الاعتراض، وتشير إلى أن المناقشات الساخنة تُعَدُّ ظاهرةً صحيَّةً داخل المجلس في الممارسة السياسية للمعارضة.

وتعلِّق على طغيان الجانب التشريعي على هذه الدورة بأنه طالما تمَّ تعديل الدستور فلا بد من أن يتبع ذلك نفاذ القوانين الخاصة بهذا الدستور حتى لا يكون هناك فراغٌ دستوريٌّ، كما أن مجلس الشورى كان سيحلّ قبل انقضاء الدور التشريعي لمجلس الشعب، وهو ما سبَّب هذا التكدُّس لإقرار القوانين.

اقتراح للمحمدي بإنشاء نقطة شرطة بقرية أبيس الثانية


تقدم النائب المحمدي السيد أحمد- عضو الكتلة البرلمانية للإخوان المسلمين ونائب دائرة الرمل بالإسكندرية- باقتراح برغبة إنشاء نقطة شرطة بقرية أبيس الثانية؛ نظرًا للكثافة السكانية الكبيرة للقرية. وأشار المحمدي إلى أنه ظهر الكثير من المشكلات الأمنية التي تُنذِرُ بعواقب أمنية وانتشار الجرائم، كما أكد النائب أن المنطقة يوجد بها مواطنون يعانون أشدَّ المعاناة، ويريدون من يحل لهم مشكلاتهم؛ حيث إنها منطقة نائية وكثيفة السكان، ويصعب عليهم الاتصال بقسم الرمل الذي تتبعه القرية!!

طبيعة الدولة الإسلامية.. دينية أم مدنية؟!

 
بحث من إعداد: سعيد الصادق المحامي*
اختلف علماء القانون والاجتماع والتاريخ حول أصل نشأة الدولة، وترتَّب على هذا الاختلاف ظهور العديد من الأفكار والنظريات التي وُضعت لتفسير هذه النشأة.
وقد قام البعض بتقسيم هذه النظريات إلى مجموعات نوعية متقاربة، فنجد البعض يقسِّمها إلى نظريات ديمقراطية وأخرى غير ديمقراطية(1), وذلك لقرب هذه النظريات أو بُعدها من الفكرة الديمقراطية, ويقسِّمها البعض إلى نظريات دينية وأخرى بشرية، وذلك من حيث إرجاع النشأة إلى البشر أو إلى قوى غير بشرية(2), ويرى البعض إرجاع هذه النظريات إلى اتجاهَين اتجاه نظري وآخر واقعي (3) أو اتجاه غيبي وآخر علمي(4).
وسنتحدث بإيجاز عن هذه النظريات، ثم نوضح طبيعة الدولة الإسلامية وموقفها من هذه النظريات:
أولاً: النظريات الثيوقراطية التي تُرجع مصدر السلطة إلى الله
درج الفقهاء في مصر على وصف هذه النظريات بأنها نظرياتٌ دينيةٌ، مع أن المعنى الحرفي للمصطلح الفرنسي لا يعني النظريات الدينية بل يعني النظريات التي تَنسِب السلطة إلى الله(5)، وتنقسم هذه النظريات إلى ثلاث:
(1) نظرية تأليه الحاكم
وَجدت هذه النظرية مجالاً رحْبًا في العصور القديمة؛ حيث تأثر الإنسان بالأساطير، فظن أن الحاكم إلهٌ يُعبَد.. ففي مصر الفرعونية كان فرعون هو الإله (رع)، وقد سجَّل القرآن الكريم قول فرعون في قوله: ﴿مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي﴾ (القصص: من الآية 38) وقوله تعالى: ﴿فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى (24)﴾ (النازعات)، وفي بلاد فارس والروم كان الحاكم يصطبغ بصبغة إلهية.
(2) نظرية الحق الإلهي المقدس المباشر
تعني هذه النظرية أن الحاكم ليس إلهًا ولا نِصْفَ إله, ولكنه بشرٌ يحكم باختيار الله عز وجل، فالله الذي خلق كل شيء وخلق الدولة، وهو الذي يختار الملوك مباشرةً لحكم الشعوب، ومن ثَمَّ فَمَا على الشعب إلا الطاعة المطلَقة لأوامر الملوك، ويترتب على ذلك عدم مسئولية الملوك أمام أحد من الرعية، فللملك أن يفعل ما يشاء دون مسئولية أمام أحد سوى ضميره ثم الله الذي اختاره وأقامه.
وقد سادت هذه النظرية أوروبا بعد أن اعتنق الامبراطور قسطنطين الدينَ المسيحيَّ, فخرج البابوات على الناس بهذه النظرية؛ وذلك لهدم نظرية تأليه الحاكم من ناحية, ولعدم المساس بالسلطة المطلقة للحاكم من ناحية أخرى.
(3) نظرية الحق الإلهي غير المباشر
لم تعد فكرة الحق الإلهي المباشر مستساغةً من الشعوب, ومع ذلك لم تنعدم الفكرة تمامًا, وإنما تطوَّرت وتبلورت في صورة نظرية التفويض الإلهي غير المباشر أو العناية الإلهية, ومؤدَّى هذه النظرية أن الله لا يتدخل بإرادته المباشرة في تحديد شكل السلطة, ولا في طريقة ممارستها, وأنه لا يختار الحكَّام بنفسه وإنما يوجِّه الحوادث والأمور بشكلٍ معيَّن يساعد جمهور الناس على أن يختاروا بأنفسهم نظام الحكم الذي يرتضونه ويذعنون له وهكذا، فالسلطة تأتي من الله للحاكم بواسطة الشعب (6) والحاكم يمارس السلطة باعتبارها حقَّه الشخصي، استنادًا إلى اختيار الكنيسة ممثلةً للشعب المسيحي؛ باعتبارها وسيطًا بينه وبين السلطة المقدسة التي تأتي من لدن الله.
تقديرنا لهذه النظريات وعلاقة الدولة الإسلامية بها
لا شكَّ أن هذه النظريات الغيبية لا تستند إلى أساسٍ دينيٍّ, فلا دخْلَ للدين الصحيح بها، وإذا كان رجال الدين المسيحي قد شاركوا في وضعها وألبسوها ثوبًا دينيًّا فهذا لا يخرجها عن كونها محضَ اختلاق بشري؛ إذ أن الدول التي تبنَّت هذه النظريات قديمًا وحديثًا كانت أبعد ما تكون عن الدين, لقد اتخذت هذه التسمية ستارًا تحتمي به من غليان الشعوب, وتُخفي خلفه حكمًا استبداديًّا ظالمًا, فتارةً يكون الحاكم إلهًا أو نصف إله، وتارةً يكون بشرًا من نوعٍ خاص يحكم باسم الإله وينوب عنه على أنه مبعوث العناية الإلهية لحكم البشر وإذلال البشر.
إن كل هذه الحالات كانت بعيدةً عن الدين وإن كانت صلتها وثيقةً بالمعتقدات الباطلة والدجل والشعوذة، ولنرجع لدولة الإسلام ولنتساءل: هل الحاكم في الدولة الإسلامية إله أو نصف إله؟ وهل يحكم بتفويض من قبل الله فلا دخل للبشر في اختياره فضلاً عن مساءلته؟!
إن مؤسس الدولة الإسلامية وحاكمها الأول كان نبيًّا رسولاً، فهل ادَّعى مرةً واحدةً مثل هذه الادعاءات..؟ أو أنه أعلنها صريحةً واضحةً ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ﴾ (فصلت: من الآية 6)؟! والقرآن الكريم ينهَى عن عبادة الأشخاص والطواغيت ويأمر بعبادة الله ﴿فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ (البقرة: من الآية 256).
والحاكم في نظر الإسلام ليست له أيَّةُ صلة إلهية وليس مقدَّسًا ولا معصومًا في نظر المسلمين, وليس له الحق وحده في بيان الدين وتفسير نصوصه, وليست له سلطةٌ دينيةٌ على أحد, فما هو إلا فرد من المسلمين وثِقوا بكفايته لحراسة الدين وسياسة الدنيا، فبايعوه على أن يقوم برعاية مصالحهم، وله عليهم حق السمع والطاعة، وسلطانه مكتسب من بيعتهم له وثقتهم فيه(7)، وقد قيل لأبي بكر: "يا خليفة الله" فقال "لستُ خليفةَ الله ولكني خليفةُ رسول الله".(8)
ثانيًا: النظريات التي تُرجع نشأة الدولة إلى البشر
(1) نظرية التغلب والقوة
تُرجِع هذه النظريةُ أصلَ نشأة الدولة إلى واقعة التغلب؛ حيث إن القانون الطبيعي يعني البقاء للأقوى؛ وحيث إن القوى البشرية في صراعٍ دائمٍ, وهذا الصراع يُسفر دائمًا عن منتصر ومهزوم، والمنتصر يفرض إرادته على المهزوم, والمنتصر النهائي يفرض إرادته على الجميع, فيتولى الأمر والنهي في الجماعة, ويكون بمثابة السلطة الحاكمة.. فتنشأ بذلك الدولة مكتملة الأركان(9).
(2) نظرية التطور العائلي
رائد هذه النظرية الفيلسوف اليوناني أرسطو، فهو يرى أن الإنسان كائنٌ اجتماعيٌّ بطبعه, ولا يستطيع أن يعيش منعزلاً، فهو يشعر بمَيلٍ غريزيٍّ للاجتماع, فيلتقي الذكر بالأنثى مكونَين بذلك وحدةً اجتماعيةً صغيرةً وهي الأسرة, وتتفرَّع الأسرة وتتشعَّب مكونةً العائلة, فالعشيرة، فالقبيلة، فالمدينة التي تكون نواة الدولة.
وتُعتبر هذه النظرية بحق أول محاولة فكرية لتفسير نشأة الدولة، والقائلون بها لا يرون الدولة إلا مرحلةً متقدمةً ومتطورةً من الأسرة، وأن أساس السلطة فيها يعتمد على سلطة رب الأسرة وشيخ القبيلة(10).
(3) نظرية التطور التاريخي
رائد هذه النظرية العلاَّمة دوجي، فهو يرى أن الدولة مجرد واقعة اختلاف سياسي، فالدولة توجد في كل مرة يوجد فيها جماعة اختلاف سياسي من أي نوعٍ كان, ومن ثَمَّ فهي واقعةٌ تاريخيةٌ، بها تتحوَّل جماعةٌ بشريةٌ معينةٌ إلى دولة، وتقترب هذه النظرية من نظرية التغلب والقوة وإن كانت القوة هنا أعم, فلا يشترط كونها عمليةً أو صدامًا حربيًّا(11).
(4) نظرية العقد الاجتماعي
ظهرت فكرة العقد الاجتماعي قديمًا كأساسٍ لنشأة المجتمع السياسي عند الإغريق، فالنظام السياسي في نظرهم هو نظامٌ اتفق الأفرادُ على تكوينه للسهر على مصالحهم, ومن ثم فلا يجوز أن يكون هذا النظام حائلاً دون تمتُّعهم بحقوقهم الطبيعية, ولا يتقيَّد الأفراد بالقانون إلا إذا كان متفقًا وهذه الحقوق الطبيعية(12)، ثم جاء النظام السياسي الإسلامي فأبرَزَ عملية التعاقد ورتَّب عليها أثرَها كما سنُبيِّن فيما بعد، ثم ظهرت هذه الفكرة في كتابات بعض المفكِّرين الغربيين منذ نهاية القرن السادس عشر، وكان من أبرز القائلين بهذه النظرية هوبز ولوك الإنجليزيان وجان جاك روسو الفرنسي
وقد اتفق ثلاثتهم على أن العقد الاجتماعي يقوم على فكرتَيْن أساسيتين:
إحداهما: تتحصَّل في وجود حالة فطرية- بدائية- عاشها الأفراد منذ فجر التاريخ.
وثانيتهما: تتبدى في شعور الأفراد بعدم كفاية هذه الحياة الأولى لتحقيق مصالحهم، فاتفقوا فيما بينهم على أن يتعاقَدوا على الخروج من هذه الحياة بمقتضى عقدٍ اجتماعي ينظِّم لهم حياةً مستقرةً, أي تعاقدوا على إنشاء دولة, وبذلك انتقلوا من الحياة البدائية إلى حياة الجماعة(13) ومع اتفاقهم في هاتين المقدمتَين فقد اختلفوا في حالة الأفراد قبل التعاقد وبنود هذا التعاقد، فاختلفت بذلك النتائج التي رتَّبها كلٌّ منهم على النظرية(14).
تقديرنا لهذه النظريات وعلاقة الدولة الإسلامية بها
يُؤخذ على هذه النظريات العديد من المثالب، فنظرية التغلُّب والقوة من العسير أن تعمّم هذه النظرية بحيث تشمل كل دول العالم, فهناك عددٌ غير قليل من الدول قام على خلاف هذه النظرية.
أما نظرية التطور العائلي فيؤخَذ عليها أيضًا أنها لا تصلح لتفسير نشأة كل الدول، بل إن العديد من الدول قد تكوَّنت دون المرور بهذا التطور, كما أنه من الخطأ ربْط الدولة بالأسرة وذلك لاختلافهما في الهدف وفي طبيعة السلطة؛ حيث إن الرباط المعنوي الذي يربط بين أفراد الأسرة أقوى بكثيرٍ من رباط المواطنة, وما يتحمَّلُه الإنسان من والده غير ما يتحمَّله من حاكمه, والشعب في دولة من الدول قد يتكوَّن من أمم مختلفة (15).
أما نظرية التطور التاريخي فيؤخذ عليها أن كل اختلاف سياسي لا يؤدي حتمًا إلى قيام دولة, كما أن هذه النظرية تضفي صفة الدولة على التجمعات البشرية القبلية, وهو ما انفرد به دوجي بين الفقهاء.(16)
أما نظرية العقد الاجتماعي وإن كانت هذه النظرية قد ساعدت على التخلُّص من الاستبداد والحكم المطلق إلى حدٍّ ما.. إلا أنه يؤخذ عليها أنها قامت على فرضية خيالية لا تستند إلى الواقع، وهي افتراض اجتماع الأفراد وتعاقدهم على إنشاء الدولة، وهذا لم يثبُت تاريخيًّا في غالب الدول، وكذلك النظرية لا تصلح لتبرير نشأة الدولة بصفة عامة، بل إن غالبية الدول قد قامت على غير هذا الأساس.
ولا تصلح هذه النظريات جميعها كأساس لنشأة الدولة الإسلامية، وإن كان البعض يرى أن هناك شبهًا كبيرًا بين بيعة الخلافة التي تولَّى بها الخلفاء الراشدون الحكم بعد وفاة الرسول- صلى الله عليه وسلم- ونظرية العقد الاجتماعي, فعلماء الفقه الإسلامي قد قالوا إن الإمامة عقْد, وإن الإمامة تثبت بالاختيار لا بالنص والتعيين.
وقد بحث الدكتور عبد الرزاق السنهوري طبيعةَ عقد الإمامة كما عرضه علماء الإسلام, فقال عنه: إنه عقدٌ حقيقيٌّ مبنيٌّ على الرضا, وإن الغاية منه أن يكون هو المصدر الذي يستمد منه الإمام سلطته, وهو تعاقد بين الأخير والأمة, ثم أشار في مواضع أخرى إلى أن مفكِّري الإسلام قد أدركوا جوهر نظرية روسو، وهي التي تقول إن الحاكم أو رئيس الدولة يتولى سلطانه من الأمة نائبًا عنها نتيجةَ تعاقد حرٍّ بينهما (17).
طبيعة الدولة الإسلامية
يجدُرُ بنا بدايةً أن نشير إلى الخطأ الذي يقع فيه الكثيرون من المثقفين بل ومن رجال الفكر والعلم في البلاد الإسلامية الذين ينسبون للإسلام كلَّ بضاعة يرونها قد راجت لدى الغرب في سوق الفكر السياسي والنظريات والمذاهب السياسية, وهم فيما يفعلون يظنون أنهم يقدمون للإسلام خدمةً أو نفعًا, ويحسبون أنهم يحسنون صنعًا, ولقد فات أصحاب هذه العقلية أن الإسلام يختلف عن سائر النظم السياسية الأخرى اختلافًا كبيرًا, فهو يتميَّز بأنه يجمع بين الشئون المادية والروحية, وينظِّم نشاط الإنسان الدنيوي كما يتناول سلوكه تجاه ربه,
ولذلك كان الحاكم الإسلامي "الخليفة" يجمع بين يديه السلطتين الدينية والسياسية.
فالنظام الإسلامي إذن على هذه الصورة نظام فريد خاص بالإسلام لا يتطابق أو يتماثل مع أي من النظم السياسية الأخرى؛ ولذا فإنه يعدُّ من ضروب الخطأ والعبث أن نبحث في الفكر الإسلامي عن نظريات أو عن صدى أو صور للنظريات الغربية, وإن كان هذا لا يمنع قيام أوجه شبه بين بعض النظريات السياسية الإسلامية وبين بعض النظريات السياسية الغربية (18).
(1) الدولة الإسلامية دولة عقيدية
الدولة الإسلامية دولة (دستورية) أو (شرعية) لها دستور تحتكم إليه, وقانون ترجع إليه, ودستورها يتمثَّل في المبادئ والأحكام الشرعية التي جاء بها القرآن الكريم, وبيَّنتها السنة النبوية في العقائد والعبادات والأخلاق والمعاملات والعلاقات.. شخصية ومدنية, وجنائية وإدارية، ودستورية ودولية.
وهي ليست مختارة في الالتزام بهذا الدستور أو القانون, فهذا مقتضى إسلامها ودليل إيمانها ﴿وَأَنْ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ﴾ ( المائدة: من الآية 49).(19)
وإذا كانت الدول الحديثة تعتزُّ بأنها تلتزم بسيادة القانون أو الدستور فإن الدولة الإسلامية تلتزم بالشرع, ولا تخرج عنه, وهو القانون الذي يلزمها العمل به والرجوع إليه, وهو قانون لم تضعه هي بل فُرض عليها من سلطة أعلى منها، وبالتالي لا تستطيع أن تلغيه أو تجمِّده إلا إذا خرجت عن طبيعتها وأصبحت دولةً غير مسلمة.
فالعقيدة الإسلامية جوهرها شدُّ القلب وربطُه وتوثيقُه بمبدأ توحيد الله القائم على (شهادة أن لا إله إلا الله محمد رسول الله) هذا المبدأ في حقيقته منهج حياة، غايتُه تعبيدُ الناس لإله الناس وحدَه, فالعقيدة تشكِّل هوية النموذج الإسلامي لنظام الحكم وهي منطلقه وغايته في الحركة, ويتركز موقع العقيدة في الدولة الإسلامية في:
1- التزام الدولة الإسلامية بالعقيدة الإسلامية؛ باعتبارها هويةً مذهبيةً وقبلةً في الممارسة السياسية، وهذا يعني رفض أية عقيدة أو مذهبية أخرى تخالف المثالية الإسلامية, إن قبول الالتزام بالعقيدة الإسلامية من قِبَل الدولة يعني قبول التحاكم إلى الإسلام وتحكيمه واتباع ما جاء به سمعًا وطاعةً, قال تعالى: ﴿إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ (51)﴾ (النور)، والميل عن ذلك هوى وضلال (20).
2- الحركة بموجب هذه العقيدة قصدًا إلى إنجاز المقاصد العامة للشريعة الإسلامية وتجسيدها واقعا حيًّا معاشًا, ففي الحديث "قل آمنت بالله ثم استقم" (21)؛ إذ أن الإيمان ما وقر في القلب (قبول الالتزام وتحكيم الإسلام) وصدَّقه العمل, وهذا يعني بالنسبة للدولة الحركة من منطلق الإيمان, أو الحركة بمقتضى النظر الشرعي(22),
(2) الدولة الإسلامية دولة مدنية
إذا كانت دولة الإسلام بعيدةً عما عُرف باسم الدولة الدينية قديمًا, وأنها دولة مدنية تقيم في الأرض أحكامَ السماء, وتحفظ بين الناس أوامر الله ونواهيه, وهي دولةٌ تقوم على أساس البيعة والشورى ومسئولية الحاكم أمام الأمة, وحقّ كل فرد في الرعية أن ينصح الحاكم ويأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر.. فإن الحاكم في الإسلام مقيَّدٌ غيرُ مطلق, فهناك شريعة تقيده، وضعها له ولغيره ربُّ العباد, ولا يستطيع ولا يملك أن يغيِّر من أحكام الله الثابتة شيئًا.
ومن حق أي مسلم أو مسلمة إذا أمره الحاكم بما يخالف شريعة الله مخالفةً بيِّنةً أن يرفض، بل من واجبه أن يرفض, فقد قال أول خليفة في الإسلام أبو بكر الصديق في أول خطاب له: "أطيعوني ما أطعت الله فيكم, فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم, إن أحسنت فأعينوني, وإن أسأت فقوِّموني"
والحاكم أو رئيس الدولة في الإسلام ليس وكيلَ الله بل هو وكيل الأمة, هي التي تختاره وهي التي تراقبه, وهي التي تحاسبه, وهي التي تعزله إذا استوجب العزل, وقد قال الرئيس الثاني للدولة الإسلامية "من رأى منكم فيَّ اعوجاجًا فليقومْني".(23)
(3) الدولة الإسلامية دولة عقيدية:
من الأمثلة النادرة التي قامت فيها الدولة على أساس الرضا المسبق أو الاتفاق الدولة الإسلامية الأولى التي أقامها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في يثرب أو المدينة المنورة، حسبما سُمِّيَت فيما بعد، فالدولة الإسلامية لم تنشأ عرضًا بل سبقَها تعاقُدٌ حقيقيٌّ بين رئيسها- النبي صلى الله عليه وسلم- وبين ممثلي الشعب فيها (المجتمعون من الأنصار) على إرساء دعائم الدولة.
ولقد أطلق على عملية التعاقد اصطلاح (البيعة), وهو عقدٌ حقيقيٌّ يتخذ شكلاً معينًا.. المصافحة باليد مع التلفُّظ بعبارات من الانقياد والتأييد، وقد اختار الرسول- صلى الله عليه وسلم- من بين المتعاقدين مجموعةً تمثل باقي الذين غابوا عن الاجتماع وتضمن انقيادهم وهؤلاء هم النقباء، ولقد تطوَّرت البيعة بعد ذلك تطوُّرًا كبيرًا فكانت بمثابة استفتاء شعبي في كثير من الأمور، ولقد حرص النبي على أن يبايع المسلمين قبل القتال في غزوة الحديبية (24)، وصارت البيعة أصلاً لانتقال السلطة في الدولة الإسلامية، وأخذت شكل الانتخاب في العصر الحديث، وسوف يأتي بيان ذلك في موضعه إن شاء الله.
وإذا كانت الدولة الإسلامية قد قامت بذلك على إرادة بشرية تمثَّلت في عقد البيعة المبرَم بين الرسول- صلى الله عليه وسلم- وممثِّلي شعب المدينة، فإن هذه الإرادة التي تمثِّل أساس نشأة الدولة تتفق مع إرادة الله سبحانه وتعالى في إقامة الدولة الإسلامية؛ تمهيدًا لنصرة دينه وإظهاره على الدين كله, وإرادة الله سبحانه تسبق إرادة البشر, وهو القائل في كتابه الحكيم ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)﴾ (التكوير)، ونريد أن نقول إن هذا العقد الاجتماعي الذي قامت عليه دولة الإسلام الأولى تمَّ قبل مجيء لوك وهوبز ورسو بنظريتهم (العقد الاجتماعي) بقرون عديدة.
فالديمقراطية الغربية قد توصَّلت إلى أن السيادة للأمة في اختيار الحاكم ومحاسبته وعزله، وذلك كان بعد عشرة قرون على التشريعات الإسلامية والتي طبَّقها النبي- صلى الله عليه وسلم- والمسلمون من بعده، ولذلك فالدولة الإسلامية بالتعبير المعاصر دولة مدنية وليست حكمًا ثيوقرطيًّا, فالاحتكام فيها ليس لأمرٍ غيبيٍّ يدعمه الحاكم أو عالِم من علماء الدين، فالاحتكام يكون للقرآن والسنة (أي القانون المكتوب)، ومهام رئيس الدولة أكثرها مهامّ مدنية، كما فصل ذلك الإمام الماوردي في (الأحكام السلطانية) نحو عشر مهامّ دنيوية (25).
ويبدو ظاهرًا أن هذه الفكرة الديمقراطية التي قال بها لوك في القرن السابع عشر ليست في جوهرها وفي الواقع من أمرها إلا تحليلاً وعرضًٍا لفكرة البيعة الإسلامية في نظام الحكم الإسلامي، فإن البيعة الإسلامية هي عقد بين الأمة وبين الحاكم (الإمام أو الخليفة أو رئيس الدولة) يرتب على كل من الطرفين التزامًا للآخر ويعطيه حقًّا عليه, يرتب للأمة على الرئيس العدل في الحكم، والقيام على أمور الدين، وإقامة الحدود، وإنصاف المظلوم، وحماية الإسلام، والدفاع عن المسلمين، ويرتب للرئيس على الأمة السمع والطاعة والإخلاص، وإعانته على القيام بأعباء الحكم ما دام على كتاب الله وسنة رسوله (26).
فإذا حاد الخليفة عن الطريق السويّ, ولم يرعَ الأمانة وإذا جار وظلم أو بدَّل السيرة أو عطَّل الشرع من أي وجه من الوجوه وكذلك إذا فقَد شرطًا من الشروط التي لا بد أن تتوافر في ولايته.. فإن الأمة قوَّامةٌ عليه, ولها حقُّ تقويمه أو حقُّ عزله، وأقوال علماء المسلمين(27) صريحةٌ في أن الأمة لها هذه القوامة ولها هذا الحق..
والله من وراء القصد
مراجع البحث:
(1) د/ عبد المنعم محفوظ- النظم السياسية- ص 94 وما بعدها.
(2) د. محمد ميرغني- الوجيز في النظم السياسية والقانون الدستوري المغربي( ج1) ص12 وما بعدها- سنة 1978.
(3) د. طعيمة الجرف- نظرية الدولة والمبادئ العامة للأنظمة السياسية ونظم الحكم- ص26 وما بعدها- مكتبة القاهرة الحديثة- سنة 1973.
(4) د. يحيى الجمل- الأنظمة السياسية المعاصرة- ص 56- وما بعدها- دار الشروق.
(5) د. عبد الحميد متولي- القانون الدستوري والأنظمة السياسية- ص23 وما بعدها.
(6) د. طعيمة الجرف- المرجع السابق- ص30.
(7) راجع الإسلام والنصرانية للإمام محمد عبده- ص 63 وما بعدها؛ حيث يقول: "الخليفة عند المسلمين ليس بالمعصوم, ولا هو مهبط الوحي, ولا من حقِّه الاستئثار بتفسير الكتاب والسنة، وهو على هذا لا يخصه الدين بمزيَّة في فهم الكتاب والعلم بالأحكام، ولا يرتفع به إلى منزلة خاصة، فالأمة أو نائب الأمة هو الذي ينصِّبه والأمة هي صاحبة الحق في السيطرة عليه، وهي التي تخلعه متى رأت ذلك من مصلحتها، فهو حاكم مدني من جميع الوجوه".
(8) راجع ابن خلدون- المقدمة- ص 159- الفصل السادس والعشرون.
(9) راجع د. فؤاد العطار- النظم السياسية والقانون الدستوري- دار النهضة العربية- سنة 1974- هامش ص 104.
(10) د. عبد المنعم محفوظ- المرجع السابق- ص 20- 21.
(11) د. عبد المنعم محفوظ- المرجع السابق- ص 24.
(12) د. طعيمة الجرف- المرجع السابق- ص 22.
(13) د. فؤاد العطار- المرجع السابق- ص110.
(14) د. محمد ميرغني- المرجع السابق- ص 20.
(15) د. عبد المنعم محفوظ- المرجع السابق- ص 21.
(16) د. طعيمة الجرف- المرجع السابق- ص 22.
(17) يراجع د. عبد الرزاق السنهوري, الخلافة,
(18) يراجع في هذا المعنى الأستاذ الدكتور عبد الحميد متولي في مؤلفه "أزمة الفكر السياسي الإسلامي في العصر الحديث" الطبعة الأولى- 1970- ص 28, 29.
(19) يراجع د. يوسف القرضاوي من فقه الدولة في الإسلام- دار الشروق- الطبعة الثالثة- ص32, 33.
(20) يراجع د. حامد عبد الماجد قويسي- الوظيفة العقيدية للدولة الإسلامية- رسالة ماجستير- كلية الاقتصاد والعلوم السياسية- جامعة القاهرة- 1990- ص 262, راجع- د. عبد العظيم فودة, الحكم بما أنزل الله- القاهرة- دار الصحوة- 1987- ص 21-24.
(21) حديث صحيح- رواه مسلم- انظر نص الحديث وشرحه في: د. موسى شاهين لاشين- فتح المنعم شرح صحيح مسلم- ج1- القاهرة- دار التراث- ص 299- 239.
(22) راجع د. حامد عبد الماجد قويسي- المرجع السابق- ص 229.
(23) يراجع د. يوسف القرضاوي- المرجع السابق- ص 58 وما بعدها
(24) عن سلمة بن الأكوع قال: بايعنا النبي تحت الشجرة فقال لي: يا سلمة ألا تبايع؟! قلت: يا رسول الله قد بايعت في الأول قال: "وفي الثاني"، وعن يزيد بن أبى عبيد قال: قلت لسلمة: على أي شيء بايعتم النبي يوم الحديبية؟! قال: على الموت ح. رقم 7206- البخاري- كتاب الأحكام.
(25) يراجع الماوردي، الأحكام السلطانية- ص15؛ حيث حدَّد واجبات الخليفة في عشرة أشياء.
(26) وقد أجمل الماوردي واجبات الأمة في كتابه (الأحكام السلطانية) ص 16؛ حيث يقول: "إذا قام الإمام بما ذكرناه من حقوق الأمة فقد أدى حق الله تعالى فيما لهم وعليهم, ووجب له عليهم حقَّان: الطاعة والنصرة ما لم يتغيَّر حاله".
(27) وعلى سبيل المثال:
أ- يروي التفتازاني في كتابه شرح العقائد النسفية ص 145 رأي الشافعي "وعن الشافعي رحمه الله أن الإمام ينعزل بالفسق والجور وكذا كل قاض وأمير".
ب- والماوردي في كتابه (الأحكام السلطانية) ص 16 يقرِّر: "ووجب له عليه حقَّان ما لم يتغير حاله، والذي يتغيَّر به حاله فيخرج به عن الإمامة شيئان: أحدهما جُرح في عدالته, والثاني نقْصٌ في بدنه"، فأما الجرح في عدالته وهو الفسق فهو على ضربين: أحدهما ما تابع فيه الشهوة, والثاني ما تعلَّق فيه بشبهة، فأما الأول منهما فمتعلق بأفعال الجوارح وهو ارتكابه المحظورات وإقدامه على المنكرات؛ تحكيمًا للشهوة وانقيادًا للهوى فهذا فسق يمنع من انعقاد الإمامة ومن استدامتها, فإذا طرأ على من انعقدت إمامته خرج منها.. إلخ".
جـ- ويرى الإمام الجويني في كتابه (الإرشاد إلى قواطع الأدلة) ص 425, 426: "ولا يجوز خلعه من غير حدث وتغيير أمر، وهذا مجمع عليه، فأما إذا فسق وفجر وخرج عن سمت الإمام بفسقه فالخلاعة من غير خلع ممكن، وأن يحكم بالخلاعة وجواز خلعه، وخلع الإمام نفسه من غير سبب محتمل أيضًا".
د- ويرى الإمام الغزالي في كتابه (إحياء علوم الدين) الجزء الثاني ص 111 "أن السلطان الظالم عليه أن يكفَّ عن ولايته, وهو إما معزول, أو واجب العزل.. وهو على التحقيق ليس بسلطان".
هـ- ويرى الآيجي في كتابه المواقف وشرحها الجزء الثامن ص 353: "وللأمة خلع الأمام وعزله بسبب يوجبه وأضاف الشارح مثل أن يوجد منه ما يوجب اختلال أحوال المسلمين وانتكاس أمور الدين كما لهم نصبه وإقامته لانتظامها وإعلائها"، ويرى الإمام ابن حزم في كتابه (الفصل في الملل والأهواء والنحل) الجزء الرابع ص 102".. فهو الإمام الواجب طاعته ما قادنا بكتاب الله وسنة رسوله، فإن زاغ عن شيء منها مُنِعَ من ذلك وأقيم عليه الحد والحق، فإن لم يؤمَن أذاه إلا بخلعه خُلِع ووُلِّيَ غيرُه".
و- وأخيرًا يرى الرازي في كتابه (مفاتيح الغيب) الجزء الأول ص 712 "إن الظالمين غير مؤتمنين على أوامر الله تعالى وغير مقتدًى بهم فيها, فلا يكونون أئمةً في الدين, فثبت بدلالة الآية بطلان ولاية الفاسق".
---------
* أمين صندوق نقابة المحامين بالشرقية.
لماذا الإسلام هو الحل
بقلم: د. محمد مرسي
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وعلى كل مَن سار على دربه واتبع هديه وبع
عندما قررت جماعة الإخوان المسلمين خوض الانتخابات على اختلاف مستوياتها برلمانية كانت أو محلية أو تلك المتعلقة بالنقابات المهنية ونوادي أعضاء هيئة التدريس، أو الاتحادات الطلابية لم يكن الهدف هو خوض غمار التجربة والوصول لمقاعد مؤثرة لتقديم نماذج متميزة وفاعلة في العمل الشعبي والسياسي فقط، وإنما كان الهدف أيضًا ترسيخ مفهوم ضرورة إقامة المجتمع المسلم كخطوة أساسية وضرورية لإحداث الإصلاح والتغيير المطلوب لإقامة الدولة الإسلامية التي ننشدها والتي بها الخير والاستقرار للمجتمع كله.
وعندما قرر الإخوانُ خوضَ هذه التجربة وتحمُّل تبعاتها كان الهدفُ هو طرح الرؤية الإسلامية وترسيخ مفهوم أنَّ الإسلامَ هو القادر على حلِّ مشاكلنا وانتشالنا من واقعنا الأليم في كافةِ المجالات السياسية والاقتصادية وعلى مختلفِ الأصعدةِ المحلية والقومية والعالمية، ليتحول الشعار الذي اخترناه وهو شعار "الإسلام هو الحل" إلى واقعٍ ملموس.. بمضمون ومحتوي.. وبممارسة وتجربة.. وأداء يجسد النظرية ويقدم الدليل والبرهان على صحتها وإمكانية إقامتها وتطبيقها.
ومن أجل ذلك بذل نواب الإخوان المسلمين السبعة عشر خلال الفصل التشريعي الثامن (2000/2005م) كل جهد ممكن من أجل الوصول لهذا الهدف فكانت مشاركاتهم تحت قبة البرلمان فاعلةً ومؤثرةً، كما هو الحال خارج القبة، وتشهد مضابط مجلس الشعب ومحاضر لجانه النوعية بما قدَّمه نواب الإخوان طيلة خمس سنوات هامة شهدت فيها مصر الكثير من المتغيرات، وتأثرت بكثير من الأمور على المستوى الداخلي والخارجي، كما شهد العالم تغيرًا في سياسته وطريقة إدارته، فالعالم العربي أضيفت إليه فاجعة جديدة هي احتلال العراق بعد الاحتلال الصهيوني لفلسطين منذ أكثر من خمسين عامًا، ولقد أثَّر ذلك على المناخ السياسي داخل مصر وخارجها.
ولقد كان لنواب الإخوان أثرٌ واضحٌ في كل المجالات، ففي داخل البرلمان طُرح الكثيرُ من القضايا في السياسة والاقتصاد والثقافة والتعليم، سواء من خلال استخدام الأدوات الرقابية التي كفلها الدستور والقانون للنواب، أو باستخدام الأدوات التشريعية كحقٍّ أصيلٍ للنائب، وكانت الحكومة تحاول طمس معالم هذا الدور، كما كان لنوابنا صولات وجولات في القضايا العربية والإسلامية التي تتعلق بأمن مصر القومي أو التي تعد مصر طرفًا أساسيًّا فيها أو غيرها التي تمس الدول العربية والإسلامية، فمصر هي القلب في العالمين العربي والإسلامي مهما حاول المغرضون محو ذلك أو إنكاره.
وفي خارج البرلمان كان لنواب الإخوان مساهمات وجهود لتحقيق رغبات أبناء الأمة في الدوائر المختلفة خلال خمس سنوات كاملة هي عمر المجلس في فصله التشريعي الثامن، ولا نكون مبالغين إن قلنا إنَّ القطر المصري كله شعر بها، وما كان لهذا كله أن يتحقق إلا بالجهود التي بُذلت وعلى مدار الساعة، ولم يكن لهذه الإنجازات أن تستمر إلا من خلال اليقين والاقتناع التام بأن "الإسلام هو الحل"، فهذا الشعار وبفضل الله وتوفيقه الذي يحمل مضمونًا ومعنًى وأهميةً لنا ولكل أبناءِ الشعب المصري وللعالم العربي والإسلامي.
وانطلاقًا من هذا الشعار ومن خلال الممارسات الدستورية للتغيير والإصلاح، وجدنا أنه لا إصلاحَ حقيقي دون أن نبدأ بالإصلاح السياسي، ووجدنا أيضًا أن النظام البرلماني هو أقرب النظم التي نقبلها كنظامٍ عامٍّ لدولة إسلامية مدنية، وبالتالي فإنَّ صناديق الانتخابات هي الفيصل والحكم، فنحن نريد للشعب الحرية في اختيار من يمثله، كما نتمنى من هؤلاء الأعضاء بعد أن يضع الناس ثقتهم فيهم أن يكونوا على قدر المسئولية وأن يقدموا مصالح وطنهم وشعبهم على مصالحهم الخاصة أو نظرتهم الحزبية الضيقة.
ونؤكد أنَّ البرلمان هو بوابة التغيير الحقيقية، وهو طريق الإصلاح لباقي مؤسسات الدولة فإن صلُح البرلمان صلُحت باقي المؤسسات وذاق الشعب ثمار جهاده وجهده، وصبره وعطائه وتضحيته..
وما بذله الإخوان من جهدٍ في مختلفِ المجالات التشريعية والرقابية داخل مجلس الشعب أو الخدمية داخل النقابات المهنية والعمالية ليست تفضلاً على الناس، وإنما هي دليل عرفان لتوفيق الله ثم لمَن وضع ثقته ليس فينا كأفراد وإنما من وضع ثقته ومنح صوته للدعوةِ ومنهجها الذي يتجسد في شعارنا الدائم "الإسلام هو الحل".
والله نسأل أن يوفق الأمة ومؤسساتها لما فيه الخير ﴿فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾ (غافر: 44)، ونعاهد الله على الاستمرار في السير في ذات الطريق.
فالله غايتنا والرسول قدوتنا والقرآن دستورنا والجهاد سبيلنا والموت في سبيل الله أسمى أمانينا، فهيا إلى العمل، ومعًا نستكمل المسير لتكوين برلمان جديد للفصل التشريعي التاسع، نُعلي فيه وبه صوت الحق ونرعى مصالحَ الشعب ونحترم القانون والدستور والله أكبر ولله الحمد "والإسلام هو الحل".

كشف المستور حول طلب تعديل الدستور

كشف المستور حول طلب تعديل الدستور
بقلم النائب الأستاذ صبحي صالح
جرى طلب تعديل الدستور- من السيد رئيس الجمهورية- رسميًّا بطلبٍ
قد
إلى مجلسي الشعب والشورى بتاريخ 26/12/2006م؛ وذلك استنادًا
للمادة 189 من الدستور.
وحيث إنه بالإطلاع على هذا الطلب يتضح الآتي:-
أولاً: أن هذه التعديلات اشتملت على 34 مادةً من مواد الدستور.
ثانيًا: أن هذه المواد اشتملت جميع أبواب الدستور تقريبًا ابتداءً من المادة رقم (1) وحتى المادة (205) علمًا بأن الدستور كله 211 مادة.
حيث شملت التعديلات المطلوبة شكل الدولة ومقوماتها الأساسية- والسلطة التشريعية- والسلطة التنفيذية والسلطة القضائية- ومجلس الشورى- بما يستشف منه أن التعديلات المطلوبة مسَّت كل شيء في الدستور، الأمر الذي يقطع بصحة ما ذهب إليه من طالب بضرورة- تبديل الدستور- وليس مجرَّد تعديل لبعض نصوصه-؛ الأمر الذي يستوجب تشكيل جمعية تأسيسية تعكس في تشكيلها كل ألوان الطيف السياسي للشعب المصري كله بكل تياراته وأطيافه وانتماءاته السياسية والفكرية، فضلاً عن العلماء المختصين والخبراء، وهو ما لم يحدث.
وسوف ننظر إلى هذه التعديلات من زوايا ثلاث وهي:
أولاً: ما طلب السيد الرئيس تعديله
جرت المواد المطلوب تعديلها على خمسة عشر محورًا؛ وذلك على النحو التالي:-
المحور الأول : ويشمل تعديل 11 مادة جميعها خاصةً بتعديل وإلغاء كل ما يخص الاشتراكية والسلوك الاشتراكي وتحالف قوى الشعب العاملة، وما شابه ذلك (الاشتراكية وما يرتبط بها ) .
وتعديل بإضافة مبدأ المواطنة بدلاً من تحالف قوى الشعب العاملة، وكذلك إضافة مادة خاصة بحماية البيئة والحفاظ عليها.
ويلاحظ على هذا الحذف: (للاشتراكية وما يرتبط بها) أنه جرى مع الإبقاء على نص المادة 87 الخاصة بنسبة الـ 50% للعمال والفلاحين، رغم أنها من أخص خصائص الاشتراكية ومظاهرها.
- كما يلاحظ إضافة المواطنة- رغم أن هذه المواطنة مكفولة بالمواد (8 ) من الدستور- الخاصة بتكافؤ الفرص والمادة (40) الخاصة بالمساواة.
المحور الثاني :- ويشمل تعديل مادة واحدة (المادة 5) بإضافة نص يحظر قيام الأحزاب على أساس الدين أو الجنس أو الأصل؛ استجابةً لمطالب العلمانيين.
المحور الثالث :- ويشمل المادتين( 62، 94 ) وهاتان المادتان تتعلقان بحقِّ الانتخاب والترشيح- وكيفية الانتخاب والترشيح، والمقصود من هذا التعديل: العدول عن نظام الانتخاب الفردي المتبع حاليًا- إلى نظام القائمة الحزبية، وكذا تمكين المرأة من المشاركة السياسية بما مفاده: إقصاء المستقلين والتضييق عليهم، واحتكار الحياة السياسية إلى الأبد دون منازع أو منافس أو شريك.
بزعم أن الغرض من ذلك إنعاش الحياة الحزبية، علمًا بأنه من المعلوم للكافة أن أزمة الحياة الحزبية والسياسية عمومًا في مصر تكمن في قانون الأحزاب 40 لسنة 1977م، ولجنة الأحزاب الحكومية المنصوص عليها في ذلك القانون.
ولم يكن الأمر يحتاج أكثر من تعديلٍ هذا القانون أو على الأقل إلغاء هذه اللجنة لا غير.
المحور الرابع: تعديل المادة ( 74( وهي المادة الخاصة بالتدابير التي يتخذها رئيس الجمهورية لمواجهةِ الخطر، والغرض من التعديل إضافة ضمانات على ممارسة هذه السلطات من خلال اشتراط استشارة رئيس مجلس الوزراء ورئيس مجلسي الشعب والشورى قبل اتخاذ الإجراء.
وطبعًا هذا التعديل عبثي وغير جدي؛ وذلك للآتي:
1- أن دور هذه الشخصيات قاصر على الاستشارةِ فقط.
2- وأن هذه الشخصيات التي سيشاورها الرئيس- كلها من اختيار الرئيس- وولاؤها للرئيس.
المحور الخامس: تعديل المادة ( 76/ الفقرات 2، 3( وهي المادة الخاصة بانتخاب رئيس الجمهورية، والغرض من التعديل: إتاحة الفرصة للأحزاب، وهذا أيضًا تعديل عبثي للآتي:
1- أن هذه التيسيرات المزعومة تكون هذه الفترة الزمنية وحدها.
2- تعمد إقصاء المستقلين.
3- الإبقاء على كل الموانع والقيود الواردة بتلك المادة المعيبة أصيلاً.
المحور السادس: تعديل المادة ( 78 ( والغرض منه: حسم الخلاف الفقهي حول بدء مدة الرئاسة الجمهورية.. متى تبدأ، وهو ما يجعله تعديل غير جدي ولا عملي؛ ذلك لأنَّ الرئيسَ في مصر يبدأ من جلوسه وبغير نهاية.
المحور السابع : تعديل المواد (82، 84/1، 85 ) وهي المواد الخاصة بحالة وجود مانع أو عائق لرئيس الجمهورية.
ملحوظة: هذه المواد خاصة بمنصب نائب الرئيس، ويسعى التعديل إلى إحلالِ رئيس مجلس الوزراء محل الرئيس عند المانع، وهو ما يُعدُّ تقنينًا لإلغاء منصب نائب الرئيس بما يعكس الفلسفة الحالية لنظام الحكم الذي يحكم واقعًا وعملاً بغير نائبٍ منذ أكثر من ربع قرن.
المحور الثامن : تعديل المادة ( 88 ( وهي المادة الخاصة بالإشراف القضائي الكامل على الانتخابات- والسعي نحو تشكيل لجنة عليا مستقلة للإشراف على الانتخابات- تكون لها صلاحيات أسطورية.
وهذا التعديل كارثة وحده؛ لأن معناه تزوير الانتخابات بنصِّ الدستور؛ وهذا التعديل كارثة لأنه:
1- إقصاء للقضاء.
2- إسناد مهمة الإشراف على الانتخابات عملاً للأمن.
3- تشكيل لجنة يختارها رئيس الجمهورية الذي هو في الواقع رئيس الحزب الحاكم للإشراف على انتخابات
الخصم فيها حزب الرئيس الذي اختار اللجنة.
4- الصلاحيات الممنوحة لهذه اللجنة تجعلها فوق السلطات الدستورية في الدولة؛ فقراراتها محضة بالمخالفة لنص
المادة 68/2 من الدستور التي تمنع تحصين أي عملٍ أو قرارٍ من رقابة القضاء، أي أنَّ هذه اللجنة أقوى وأعلى
من القضاء.
المحور التاسع: تعديل المادتان ( 115، 118 ) والخاصة بحقِّ المجلس في مناقشة الموازنة العامة والحساب الختامي- من خلال إعطاء مساحة زمنية أفضل، وكذلك حق مناقشة بنود وأبواب الموازنة العامة.
المحور العاشر : تعديل خمس مواد (127 و133 و136/1 و194 و195)
وهي خاصة بالآتي:-
1- تخفيف إجراءات تقرير مسئولية رئيس مجلس الوزراء.
2- حق مجلس الشعب في سحب الثقة دون حاجة للاستفتاء.
3- تقرير دور مجلس الشعب في منح الثقة للحكومة وحجبها.
4- حق رئيس الجمهورية في حلِّ المجلس دون حاجةٍ للاستفتاء.
5- إعطاء مجلس الشورى اختصاصات تشريعية.
وطبعًا هذه التعزيزات والصلاحيات عديمة الجدوى وشكلية تمامًا دون أي أثرٍ عملي؛ وذلك للآتي:-
1- مجلس الشعب سيشكل وفق النظام الانتخابي المقترح ودون إشرافٍ قضائي (كما قدمنا)، فضلاً عن التشكيل
التحكمي للمجلس (50% عمال وفلاحين + مقاعد للمرأة + 10 أعضاء يعينهم رئيس الجمهورية) فهو مجلس
الحزب الذي جاء به الحزب.
2- أما الاختصاص التشريعي لمجلس الشورى فهو أيضًا كارثة؛ وذلك لأن تشكيل مجلس الشورى نفس التشكيل
السابق ويزيد عليه حق رئيس الجمهورية في تعيين ثُلث أعضائه، يعني أكثر من ثلثي المجلس (ملاكي ) .
المحور الحادي عشر: تعديل المادتين ( 138 ,141) وهي مواد خاصة بسلطات الحكومة (مجلس الوزراء) والهدف من التعديل إعطاء سلطات أوسع لمجلس الوزراء مع الرئيس (بعضها بالموافقة وبعضها بالرأي ) .
ملاحظة: رئيس الوزراء والوزراء ونوابهم يعينهم الرئيس ويعفيهم مَن مناصبهم الرئيس.
المحور الثاني عشر : تعديل المادة ( 161 ) وهذه المادة خاصة بنظام الإدارة المحلية- بهدف تعزيز نظام اللامركزية في الإدارة.
وهذا كلام دعائي محض؛ لأنه لو أُريدَ ذلك وقُصِدَ فعلاً إصلاحٌ سياسي للإدارة المحلية لأعطيت للمجالس المحلية حقوق الرقابة الفعالة من خلال تعديل قانون الإدارة المحلية، وهذا وحده يكفي.
المحور الثالث عشر : تعديل المادتين ) 173,179( المقصود بهما إلغاء المجلس الأعلى للهيئة القضائية وإلغاء نظام المدعي العام الاشتراكي ومحكمة القيم بزعم تحقيق استغلال القضاء.
وطبعًا- هذا تعديل شكلي وفارغ من أي مضمون- ويدخل في إطار المحور الأول (إلغاء كل الاشتراكي)، ولا علاقةَ له باستقلال القضاء بدليل:
1- المعركة الشرسة والقتال المستميت من الحزب الحاكم وحكومته أثناء مناقشة قانون السلطة القضائية والإصرار
التام على عدم تحقيق أي استقلال أو حصانة للقضاء.
2- إقصاء القضاء عن الإشراف على الانتخابات.
3- إعفاء رجال الأمن والضبطية القضائية من أي رقابةٍ للقضاء في حالاتِ القبض على الأفراد أو تفتيشهم وانتهاك
حرمة مساكنهم ومراقبة المكالمات والمكاتبات وخلافه دون إذنٍ قضائي كما سيرد في المحور القادم.
فأين دور القضاء في حماية الإرادة الشعبية للناخبين؟؟ وأين دور القضاء في حمايةِ الحقوق والحريات العامة؟؟! بل أين حصانة القضاء أصلاً واستقلاله؟؟ عبثًا يفعلون.
المحور الرابع عشر : إضافة نص ينظم حماية الدولة من الإرهاب وهو ما يُعدُّ مصيبةً كبرى على الوطن والمواطن؛ لأنه بموجب هذا التعديل يستحدث نص دستوري يسمح للأمن ورجال الضبط- أن ينتهكوا أحكام المواد (41/1 و44 و45/2) من الدستور، وهذا الانتهاك سيكون بمقتضى الدستور.
وهذه المواد هي المواد الخاصة (بالقبض والتفتيش وانتهاك حرمة المسكن أو انتهاك حرمة الحياة الخاصة ومراقبة الاتصالات والمكاتبات.. وخلافه، ذلك كله دون اشتراط إذن قضائي مسبق.
يعني تأسيس لنظامٍ سياسي جديد لا يعرفه العالم أجمع اسمه )الدولة البوليسية الدستورية ) .
المحور الخامس عشر:- تعديل المادة ( 205) وهذا التعديل : خاص بسريان المواد 62، 88 بعد تعديلها على مجلس الشورى (وهذه المواد خاصة بنظام الانتخاب) لثلثي أعضاء مجلس الشورى.
ملاحظة : مع الإبقاء على المادة 196 كما هي والتي تقضي بـ(حقِّ الرئيس في تعيين ثلث أعضاء المجلس )
ثانيًا: ما لم يطلبه الرئيس وكان ينتظره الشعب
لو كان المقصود من هذه التعديلات الإصلاح الدستوري والسياسي وهو مطلب شعبي يتمناه الجميع لأخذ في اعتباره ما يتمناه الجميع- وما كان ينتظره الجميع.
فقد كان ينتظر الجميع من الرئيس أن يطالب بالآتي:-
1- أن يطالب بتعديل المادة 76 سيئة السمعة؛ وذلك بإلغاء الموانع والقيود الواردة بتلك المادة، والتي تحرم
المستقلين من أي فرصةٍ للترشيح، وكذلك اللجنة الأسطورية صاحب الصلاحيات المقدسة المشرفة على
الانتخابات الرئاسية على نحوٍ يحقق انتخابٍ ديمقراطي وصحيحٍ لرئيس الدولة.
2- تعديل المادة 77 الخاصة بمدة الرئاسة.. فلا يصح أن يبقى رئيس الجمهورية (أبدي) نريد أن نرى الرئيس
السابق وليس الرئيس الراحل.
3- لماذا الإصرار على بقاءِ نسبة 50% عمال وفلاحين رغم طلب إلغاء كل المواد من جنس المكاسب الاشتراكية
(حوالي 11 مادة) .
4- لماذا لم يطالب الرئيس بتعديل المادة 183 من الدستور بقصر اختصاص القضاء العسكري بالشأن العسكري،
وعدم جواز محاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكرية وفي غير الشأن العسكري.
5- لماذا لم يطلب الرئيس تعديل المادة 93 الخاصة بصحة العضوية بما يؤدي إلى احترام قرارات محكمة النقض
قمة الهرم القضائي المصري ولو بالنصِّ على تشكيل مجلس دستوري (من القضاة) للفصل في صحة العضوية
بدلاً من بدعة (المجلس سيد قراره).. أما وأنه لم يفعل إذْ ليس القصدُ إصلاحًا سياسيًّا ولا دستوريًّا.
فما المقصود إذًا
ثالثًا: النتائج
ومما سبق فإن المطالع لما طلب السيد الرئيس تعديله- وما لم يطلب تعديله- يستنتج بغير عمق ولا تفكير الآتي:-
أولاً: أنَّ هذه التعديلات قُصد بها احتكار مؤبد للسلطة؛ وذلك من خلال:-
أ - النظام الانتخابي المزمع اختياره.
ب- إلغاء الإشراف القضائي على الانتخابات.
ج- إسناد الإشراف على الانتخابات للجنة لها صلاحية وسلطات أسطورية ومقدسة، علمًا بأن هذه اللجنة يختارها
الحزب الحاكم لتشرف على انتخاباتِ الحزب نفسه المنافس الأكبر فيها (خصم وحكم ) .
د- الإبقاء على الموانع والقيود وحرمان المستقلين- الوارد بالمادة 76.
هـ- عدم تحديد أي مدةٍ لرئاسة الدولة- طالت أو قصرت.
و- حق رئيس الجمهورية في حلِّ مجلس الشعب- المنتخب من الشعب- دون استفتاء الشعب.
ثانيًا: أن هذه التعديلات قُصد بها تكريس سطوة رأس المال على الحكم؛ وذلك من خلال:-
أ- إلغاء كل ما يخص الاشتراكية والسلوك الاشتراكي والمكاسب الاشتراكية وتحالف قوى الشعب.
ب- الامتناع العمدي عن تحديد النظام الاقتصادي للدولة.
ج- إلغاء المدعي العام الاشتراكي ومحكمة القيم.
ثالثًا: مصادره الحريات العامة وتزييف إرادة الأمة؛ وذلك من خلال:-
أ- إقصاء القضاة من الإشراف على الانتخابات أو مراقبة أعمال الشرطة ورجال الضبط.
ب- تدشين نظام سياسي جديد اسمه (الدولة البوليسية الدستورية يقوم على إطلاق يد الشرطة في القبض والتفتيش والتنصت ومراقبة المكالمات والمراسلات وانتهاك حرمة المساكن والحياة الخاصة دون اشتراط إذن قضائي بذلك.
الأهم من كل ما تقدم
ما يمكن أن تُثيره هذه التعديلات من إثباتِ ما يُثيره البعض من شبهة (تبني الطائفية والعنصرية) استجابةً للضغوط الأمريكية بما يسمح بالفوضى الخلاقة في المجتمع المصري؛ وذلك من خلال:-
أ- إثارة قضية المواطنة واختصاصها بنص خاص (م1) رغم أن هذه القضية غير مثارة ومحل تسليم من الجميع،
ولا يوجد مصري واحد يختلف على مبدأ المواطنة.
ب- اتخاذ المواطنة هذه شعارًا لخلفية البيان الذي ألقاه رئيس الجمهورية بطلب التعديل الدستوري وكأنما قصد
بذلك رسالةً إعلاميةً وسياسيةً، والسؤال لمَن هذه الرسالة؟؟
ج- تبني سياسة تمييز عنصري للمرأة رغم أن ضعف مشاركة المرأة ليس مرجعة غياب النص الدستوري وإنما
مرجعه الفساد السياسي وضعف الحياة الحزبية.
د- الإبقاء على سياسةِ تمييز عنصري اشتراكي (50% للعمال والفلاحين) رغم إلغاء كل المواد المشابهة لهذه
المادة- مثل إلغاء المادة 179 والخاصة بنظام المدعي العام الاشتراكي بزعم أنه أدَّى دوره في حمايةِ الاقتصاد
الوطني في فترة كانت تستدعي وجوده - وهو نفس الكلام الذي قيل عند تبني نظام الـ50% بأن الفترة
الاشتراكية تستدعي وجوده.
هـ- الإقصاء الدستوري لمعظم التيارات السياسية المعارضة للنظام الحالي بموجب المواد ( 5 , 76 ) .
وأخيرًا لا نملك إلا أن نسأل الله السلامة لمصر ولمستقبل مصر والمصريين؟
----------
** عضو الكتلة البرلمانية للإخوان المسلمين